راوي التأسيس و "السبحونة".. إرث تاريخي في الدولة السعودية الأولى

الراوي في عصر الدولة السعودية الأولى.. ترتبط الرواية بتاريخ وثقافة الجزيرة العربية فقد حفظت لنا مخزونا ثقافيا من القصص والأحداث والشخصيات التي مرت عليها الأزمنة ولم تدون كتابياً إنما توارثها الأجيال على أفواه الرواة جيلاً بعد جيل.

قصة أرض عاصمة التأسيس .. الدرعية وادي حنيفة وجبل طويق

ماذا تعني رموز شعار يوم التأسيس السعودي الـ5 (العلم والنخلة والصقر والخيل والسوق)

راوي التأسيس

كما أن الراوية من أهم وسائل الترفيه والتسلية للمجتمع آنذاك حيث يستطيع الراوي بمهارته وقدراته الكلامية وعباراته الجمالية وخياله الواسع من شد انتباه الجمهور عبر الغوص في أعماقهم وجعلهم لا يستمعون بآذانهم فحسب إنمـا تحلق أذهانهم في عالـم مـن الأحلام والخيـالات الـذي يجعـل مـن ردود أفعالهـم حــول تفاصيل القصة قصـة أخــرى، ويأتـي ذلك من خلال استخدام كلمات وجمل تخلق جواً من الاتصال الوجداني بين الراوي والجمهور. إذ أن ارتبــاط الــراوي بالنص

الشفهي يجعل للقصص طعماً مختلفاً ترتبط فيه نبرة الصوت الحماسية بالتأثير الحسي. كان أثر الراوي على مجتمع القرية والقبيلة آنذاك أشبه بتأثير وسيلة إعلامية أو قناة تلفزيونية في وقتنا الحاضر، فقد كان عمله يبدأ في الفترة المسائية حيث يعود الناس من أعمالهم المختلفة باحثين عن وسيلة تخرجهم من مشقة وصعوبات الحياة الواقعية إلى عالم من الخيال والأحلام يتنقلون فيه بين عوالم مختلفة.

حيث يقوم الراوي باستعراض قدراته الروائية والقصصية وكذلك السرد المشوق بين نبرات متباينة تجعلهم يضحكون تارة ويبكون أخرى حسب سياق القصة المروية. إذ كانت جلسة الراوي أشبه بالمنتدى الذي يحضره أفراد مختلفين يجلسون بإنصات وتأثر بما يقول الراوي ولاضير بسؤال حماسي يرد من أحدهم حول شخصية أو حدث انتابه الفضول حوله خلال استماعه للقصة..

بعض الرواة المتمرسين قد يستخدم حركات الأيدي والايماءات وتعابير الوجه لإضفاء بعض التشويق والحماسة علـى قصته والتي تجعل للقصة رونقاً مختلفاً وتبين مدى الاتصال الوجداني والعاطفي بين الراوي والقصة والجمهور.

كما أن إدخال الراوي للشعر في قصته سواء كان من الشعر القديم أو المتداول في حينه، كذلك طريقة إلقائه يجعـل للقصـة جاذبية من نوع آخر وذلك لأن إلقاء القصيدة وشرح معانيها وألفاظها ومدلولاتها قصة في داخل قصة يجعـل مـن مهنة الراوي عملية مستمرة كحلقات يومية منتظرة ومشوقة لمستمعيها.

ومن أبرز مميزات عمل الراوي تمكنه من الدخول في تفصيلات وتعليلات تدعم القصة دون الإخلال بها وتجعل من سردها عملية مشوقة وحماسية تجعل المتلقي يستمع بشغف ويتخيل بوضوح ، فمثلاً قد يقوم الراوي برواية قصة من التراث الشعبي ثم يقف ليسرد تفصیلات مرتبطة بموقع تلك القصة أو شخصية ( بطلة القصة ) أو تقاليد قديمة قد اندثرت وذلك لجعل المستمع قادرا على تخيل أبعاد القصـة والغــوص بهـا فـي ذهنـه ممـا يمنحـه ثـراء معرفيـاً كبيراً. كما أن من أبرز وسائل الراوي والتي تبين مدى قدراته وعبقريته في سرد القصة والرواية هو استخدامه للخيال خاصة

السبحونة

عند الحديث عن قصص أسطورية أو مرتبطة بعوالم أخرى أو كائنات مجهولة أو غير معروفة لدى المجتمع ويسمى ذلك النوع من القصص في اللهجة الشعبية الدراجة (السبحونة). وهي تعتمد بشكل رئيس على الخيال الذي يستطيع الراوي بفضل عبقريته القصصية من توظيفه في قصصه وإضفاء على أحداثها نوع من الأسطورة تكسبه ميزة وخاصية كما تساهم في إثراء السرد القصصي والروائي وإعطاء رونق خاص للقصة وليس ذلك وحسب إنما يُستفاد منها في تعديل سلوكيات مشينة في المجتمع أو إضافة سلوكيات حسنة. تأتي تركيبة القصة أو (السالفة ) أو (السبحونة) بكونها تفاصيل مبعثرة ومعلومات متناثرة ولكن بقدرة الراوي ومهارته يستطيع أن يخلق منها صورة كاملة بأسلوبه الخاص ومهاراته السردية وحركاته الإيمائية ونبرات صوته المتباينة حسب كل قصة.

كما أن من أبرز الأساليب التي يعتمدها الراوي في قصصه هو التكرار والأساليب البلاغية المتنوعة والجمل المسجوعة لاستمالة السامعين وكذلك تعطي القصة بعدا جماليا وللراوي تميزاً عن غيره من الرواة.

كما أن الاستمرارية وعــدم الانقطاع في السرد أحد مهارات الراوي الأساسية إذ تؤدي إلى الانسجام والتناغم بين المستمع والراوي. كما أن استخدام الراوي لبعض الألفاظ الجاذبة للمستمع مثل طال عمرك ، الله يسلمك الله يحفظك ، وغيرها من الألفاظ يجعل منها محل اهتمام المستمع.

كذلك استخدم الراوي عبارات قريبة من الجمهور وألفاظ شعبية مستقاة من بيئة المجتمع بخبرته ومعرفته السابقة لهم يستطيع بذلك إيصال القصة بسهولة عبر السرد الشعبي الذي يراه مناسباً لثقافتهم. كما أن استعمال الإيماءات والحركات المناسبة لمجرى أحداث القصة التي يرويها يجعل من المشوق أن يقوم بأدائها أمام الجمهور فيحـرك يـده وكأنها تحمل سيفا أو أن يستخدم سيفاً حقيقياً لتحريك مشاعر المتلقي والوصول إلى الاندماج التام مع الراوي ويستخدم مع ذلك ألفاظاً دلالية كأن يقول (وهو يعطيك إياه – وهو يلوّح بظهره).

كما أن استخدم الراوي أسلوب المتكلم يعطي تشويقاً وحماسة للمتلقي كأن يروي القصة شاهداً لها وحاضراً لأحداثها إذ يقول: (والله يالربع أنـه شـوف عينـي محـدن قالي- والله يا جماعة الخيـر أنـه سـمـع أذني- هـاك الرجال اللي طول بعرض ) كما أن الراوي الذكي الذي يستطيع ربط الخيال بالواقع هو من يقوم بربط القصة بالجمهور عبر استخدام أحدهم مثالاً لقصته كأن يقول كبر) هاك الوليد) وكذلك يستخدم العبارات اللائقة لدى الجمهور وعند اضطراره لاستخدام الالفاظ غير المرغوبة يتبعها بقول (أكرمكم الله – أعزكم الله – الله يكفينا وإياكم شر الشرور وعظايم الأمور، بسم الله علينا وعليكم عظایم اسمه).

التكرار لدى الراوي له طابع خاص ودلالة مهمة وبه يسعى لرسوخ القصة لدى الجمهور وكذلك إضفاء الطابع التشويقي فنجد أنه في العبارة الواحدة يكرر المعلومة ذاتها وليس تكراراً ممـلاً إنمـا مكملاً للقصة كأن يقول: “وهو يلفــي عليـه، على عمه، وهو يضربه يضرب ولده ما والله ذبحته ،أنا معه رمح هو”. كما أن الراوي يحب استخدام صيغة الأمر حين رواية القصة كأن يقول وقم واضرب فلان ويقوم أنت يا فلان ويذبح ذلوله).

ثقافة دولة التأسيس.. نحوة العوجا والعرضة السعودية

أما عن الجو العام للقصة والبيئة المحيطة للراوي فإن موقعه عادة يكون في وسط المجلس الخاص بالحاكم أو أحــد الأعيان أو وسط ساحة السمر سواء كانت تلك الساحة في وسط البلدة أو في البادية ويكون موقعه مميزا في الوسط حيث يستطيع الجمهور سماعه ويلتف حوله الناس حلقات أو يوسطونه بصف واحد. كما أنه مكانه في الباديـة عــادة في الخيمة الخاصة بشيخ القبيلة أو أحد زعمائها وهي من الخيام الكبيرة، أو يكون في وسط الصحراء تحت ضوء القمر وعند شعلة النار.

قصص النساء

أما قصص النساء فتكون في البيوت وغالباً ما تكون في بطن الحوي الخاص بالبيت أي فناء البيت أو قد تكون في ساحات المزارع أو الصحراء الفسيحة. يستقي الراوي قصصه ورواياته من صميم بيئته وأحوالها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كذلك الروايات المتداولة حوله وهو بخبرته ومهارته يصقلها ويضفي عليها بعضاً من التشويق اللازم لإجبار المستمع إلى الاستماع إليـه حتـى النهاية دون كلل أو ملل ويستلهم من قصته هدفا أو خُلقـاً يجعـل منهـا ليست للإمتاع فحسـب بـل درســا يبقـى مـا بقـي الزمان.

ومن قصص شرق الدول السعودية قصة القائد البحري في الدولة السعودية الأولى أرحمه بن جابر الجلهمي الذي كان أول من وضع رقعة العين إذ أنه فقد إحدى عينيه في أحد الحروب، قال عنه المقيم الإنجليزي في منطقة بوشهر عام ١٢٣١هـ / ١٨١٦م : ” إن أرحمه سوف يسيطر على الخليج لا محالة إذا لم يوقف عنـد حـده” وفـي أحـد المعارك استبسل أيمـا استبسال وأظهر شجاعة قل نظيرها .

وعندما رأى أن هزيمته واقعة لا محال قام بضم ابنه ورمى بالنار صناديق البارود الموجودة بسفينته التي أسماها (غطروشة) فانفجرت به ومات البطل ميتة أسطورية أبى فيها الاستسلام والإذعان للأعداء.

وبذلك سطر لنا التاريخ قصته وخلدها في الكتب، قال عنه المؤرخ ابن بشر ” مات الشجاع المقاتل في البحر، نادرة عصره بأسا وسطوة وشجاعة ، وكان أرحمـه كثير اللهج بالأشعار، لاسيما أشعار العرب والحماسة وله شعر جيد وله محبة لأهل هذا الدين وأهل هذه الدعوة تنبئ عن حسن عقيدته “.

ونأتي إلى غرب الدولة السعودية حيث تُلوح في الأفق قصة أحد أبطال الدولة السعودية الأولى وأشهر القادة الإمام سعود بن عبد العزيز، وهو القائد مسعود بن مضيان حينما وقف في وجه الأعداء العثمانيين دفاعا عن المدينة المنورة ولیس ذلك فحسب إنما حاول أيضا عرقلة تقدمهم نحو الدرعية وانتهى به المطاف منفياً إلى إسطنبول حيث تم إعدامه فيها عام ١٢٢٧هـ / ۱۸۱۲م، ضاربا بذلك أروع صور ا التضحية والإيثار.

وفي جنوب الدولة السعودية حيث تبرز لنا جبال عسير الشاهقة وعلى قممها تبرز لنا سيرة أبطالها الذين سطروا أعظم الملاحم التاريخية في الذود عن العقيدة والوطن وأهمهم قائد الدولة السعودية الأولى بخروش بـن عـلاس الزهراني الذي تحدى الأعداء ووقف دون تقدمهم في الحجاز وعسير وقفة رجل شجاع ولكن تطور سلاح الأعداء حال دون ذلك إذ حوصر في بلاده زهران حتى تم القبض عليه واستطاع أن يهرب في المرة الأولى وقتل عددا من الحراس والجنود ولكن استطاعوا القبض عليه مرة أخرى حيث سئل عن سبب قتله للجنود فأجابه بعزة وأنفة السعودي قائلا: “حينما لا أكون مقیدا سأتصرف حسبما أريد” ، وانتهت سيرة هذا البطل باستشهاده على أيدي المعتدين الذين قاموا بتعذيبه وتمزيقه بسيوفهم زعما منهم بأن مقتله سيقتل الشجاعة في نفوس الأهالي ولا يعلمون بأن فعلتهم زرعت الشجاعة والإقدام في قلوب السعوديين وزادتهم رغبة في التكاتف والتعاضد لإخراج الغازي فيما بعد من الجزيرة العربية.

أما شمال الدولة السعودية حيث الكرم والنخوة ومكارم الأخلاق تبرز لنا قصة الفارس خلف بن دعيجـا حـيـث سمع أحــد شيوخ القبائل الذي يرى من ابن دعيجا منافساً له حيث استقر خلف بن دعيجا في أرض جرداء لا حـطـب فيها ولا مــاء ولا حتى حجارة، وأراد زيارته قاصدا إحراجه اذ لا يستطيع ابن دعيجا إكرامه في ظل غياب الحطب ونزل عنده ذات يوم بكامل جيشه، ولم يثن ذلك كرم ومروءة خلف ابن دعيجا الذي سرعان ما قام بذبح عدد من الأغنام وإيقاد النيران مما يتوافــر فــي بيئتـه مـن يبـاس العشب ونبات العرفج ونجح في ذلك وقدم الطعام لضيوفه وأكرمهم أيما إكرام وأعان الله الكريم الشجاع.